يا أبي، لقد رأيتُ ما رأيت | شعر

من أثر قصف إسرائيليّ لمنزل عائلة في رفح، 07/11/2023 | عبد الرحيم خطيب (Getty).

 

رأيت صورةً، يا أبي، لرجلٍ يحمل أطفاله الأربعة في الحرب

فأكبرتُ صمودك في فلسطين: بلاد الحرب والنجاة.

لقد حملتَ ثمانيةً يا أبي

دون أن تئنّ

لكنّي عرفتُكَ من آهتكَ الموجوعة الّتي سبقتْ سردكَ للماضي

كلّما قلتُ لكَ:

يا أبي، حدّثني عن البلاد.

 

.

 

كلّما رأيتُ خطّ الحياة

يصعد من باطن كفّي ليرتمي على ظاهرها

قلتُ ضاحكة:

نحن قومٌ يعيشون طويلًا

نعم، فأبي عاش مئة عام

وأغضّ الطرف عن موت أخي المبكر

عندما قصف السرطان عود عمره في الخمسين

وكلّما مررتُ في الطريق من رام الله إلى القرية

فوقفتِ السيّارة على حاجز الـ «دي سي أو»

على مدخل رام الله

هناك...

حيث يافطةٌ كبيرة، بعد الجنود بأمتار، مكتوبٌ عليها:

هذه منطقة السلطة الفلسطينيّة

يُمْنَع دخول الإسرائيليّين،

فصوّب الجنود البنادق في وجهي

عرفتُ

كم أنّ عليّ

مثلما كان عليك، يا أبي،

أن أدافع عن هذا النهر المنبعج من باطن الكفّ

والمنسدل على ظهره

أمام كلّ حاجزٍ ثابتٍ أو طيّار.

أحفر دائرةٍ في باطن كفّي

وأدلّكها

كي تستريح الحياة

قبل أن تبدأ في المواجهة

في اتجاه الحياة!

 

.

 

قالت صديقتي:

يليق بكِ أن تكوني ابنة رجلٍ عاش مئة عام

فأنت قديمةٌ جدًّا!

خشيتُ أن يتناهى هذا الخبر لمسامع الاحتلال

فيداهمون بيتي

ويسحبونني من فراشي

ويدفنونني في الأرض

حتّى يعثروا عليّ لاحقًا

- كما صنعوا في تاريخهم كلّه -

ويقولون إنّني لهم

وإنّني الدليل القاطع على أنّهم عاشوا في هذه الأرض وتركوا هنا آثارًا

هيكلًا لملك

وجسدًا لامرأة

فأناديك، يا أبي، في عزّ نومي:

أخرجني من هنا

أخرجني من هنا

وأنهض فزعةً

وأتذكّر أنّك متّ

وأنّني بهذه الطريقة، كلّ ليلةٍ، أرثيك

كلّما رأيتهم يصادرونني

من الأرض

فأصرخ باسمك

وأنتظر أن تجيب

 

.

 

لا أعرف، يا أبي،

ماذا أقول للطفل الّذي مات قبل أن يعيش إلّا أسبوعًا واحدًا في الدنيا

فسجّلوا اسمه في شهادة الوفاة

قبل أن يسجّلوا اسمه في شهادة الميلاد

أعرف أنّك استعجلت الرحيل؛

فمئة عامٍ لا تكفي الفلسطينيّ

لكن ماذا أقول لهذا الطفل؟

لو أنّك هنا،

لسألتكَ أن تقتسم معه عمرك

ولرضيت،

فقد كنتّ كريمًا

واللقمة الّتي في فمك ليست لك،

فأعطيتَه ثلاثين سنة، واحتفظتَ لنفسكَ بالسبعين

أو لاقتسمتَ حياتكَ معه مناصفة؛

خمسين له. خمسين لك!

لكنّي لا أعرف ماذا كنتُ سأفعل

لو أعطيته اثنين وخمسين عامًا؟

لربّما كان هو أبي

وكنتَ أنتَ الطفل الرضيع الّذي سجّلوا اسمه في شهادة الوفاة

قبل أن يسجّلوا اسمه في شهادة الميلاد،

طفلًا وُلِدَ في عام 1948، ومات قبل أن يعيش

أهدى حياته لطفلٍ وُلِدَ في عام 2023

سيعيش مئة عام

وسأكون أنا ابنته الّتي ستولد بعد سنوات!

 

.

 

أحدّثكَ، يا أبي، لأنّه لا يوجد أحدٌ أحدّثه

فالعالم مقفرٌ

هذه الأرض مقفرة

إلّا من صرخات أطفالٍ جوعى

وأطفالٍ جرحى

وأطفالٍ لا صوتَ لهم

لكنّي أتخيّل صوتهم

فيبدؤون بالصراخ

ولا لهّايات

ولا أثداءَ أمّهات

ولا أصابع جدّات

تتمدّد بالعرض

أمام أفواههم

كي يمصّوها

كما تتمدّد الأصابع بالعرض

 أمام أفواه قططٍ وليدة

فترضعها

 

العالم مقفرٌ، يا أبي،

أكثر ممّا يجب

أكثر ممّا عهدناه في الغور معًا

في عزّ الصيف

حين كنتَ تفتح الأثلام للماء

فيرتوي التراب

ثمّ ترتوي الحشرات

ثمّ ترتوي نباتات الفول

ثمّ نرتوي نحن

عندما نرضع القرون

 

.

 

أنا حزينةٌ لأنّك رحلتَ باكرًا

رحلتَ عن مئة عام

معلّقةً كاملةً على جدران الكعبة

أنزلوها عن الجدران فأنزلوك في الضريح

وقلتُ:

حدث هذا باكرًا جدًّا

ألم تكن تعلم، يا أبي، أنّ على الفلسطينيّ

ألّا يموت باكرًا

ألّا يُخْتَطَف،

كما اخْتٌطِفْت،

من عزّ شيخوختك؟

 

.

 

أنا عاتبةٌ عليك في ضريحك

لقد علّمتني كيف أزرع الأرض

لقد علّمتني كيف أسرد الحكايات

لقد علّمتني، بطريقةٍ ساحرة،

كيف أبني من الخراب ربيعًا يتلوه صيف

ومثله، بطريقةٍ ساحرة،

كيف أبني قصّةً من رأسي، من لا شيء

لقد علّمتني،  يا أبي، ما لا أستطيع أن أعدّه الآن

وسط هذا الدم

لكنّك لم تعلّمني كيف أرمي الرصاص

كي أحمي هذا الدم!

 

.

 

حدّثتني، يا أبي، في أيّامك الأخيرة

كيف حمّلوا المقاتلين في الشاحنات

ونقلوهم إلى سوريا

حتّى يسلّموا أسلحتهم

ففررتَ عائدًا ببندقيّتك إلى جَدَيّ

في الأغوار

يا أبي،

أنا مدينةٌ لك، في ضريحك، باعتذار؛

فقد رأيتُ هذا بأمّ عينيّ

عينيّ هاتين،

عينيّ الحجر

اللّتين لا تنفجر منهما

نبعة الدموع،

كيف تخلّى عنّا أبناء جلدتنا

مثلما رأيت في ذلك اليوم

 


 

أحلام بشارات

 

 

كاتبة فلسطينيّة، ومدرّبة متخصّصة في مجال الكتابة الإبداعيّة. لها مؤلّفات في القصّة القصيرة، والكتب المصوّرة، والروايات، والمذكّرات. تعدّ من الأسماء المهمّة في الكتابة لروايات اليافعين في العالم العربيّ. تُرجمت كتاباتها إلى لغات عالميّة كالإيطاليّة والإنجليزيّة والألمانيّة.